سورة الشورى - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشورى)


        


{فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)}
وقوله تعالى: {فَاطِرَ السموات والارض} خبر آخر لذلكم أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو فاطر أو صفة لربي أو بدل منه أو مبتدأ خبره {جَعَلَ لَكُمُ} وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بالجر على أنه بدل من ضمير {إِلَيْهِ} أو {عَلَيْهِ} أو وصف للاسم الجليل في قوله تعالى: {إِلَى الله} [الشورى: 10] وما بينهما جملة معترضة بين الصفة والموصوف وقد تقدم معنى {فَاطِرَ} وجعل أي خلق {مّنْ أَنفُسِكُمْ} من جنسكم {أزواجا} نساء.
وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر غير مرة {وَمِنَ الانعام أزواجا} أي وخلق للأنعام من جنسها أزواجًا كما خلق لكم من أنفسكم أزواجًا ففيه جملة مقدرة لدلالة القرينة أو وخلق لكم من الأنعام أصنافًا أو ذكورًا وإناثًا {يَذْرَؤُكُمْ} يكثركم يقال ذرأ الله تعالى الخلق بثهم وكثرهم والذرء والذر إخوان {فِيهِ} أي فيما ذكر من التدبير وهو أن جعل سبحانه للناس والأنعام أزواجًا يكون بينهم توالد وجعل التكثر في هذا الجعل لوقوعه في خلاله وأثنائه فهو كالمنبع له، ويجوز أن تكون في للسببية وغلب في {يَذْرَؤُكُمْ} المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل فهناك تغليب واحد استمل على جهتي تغليب وذلك لأن الأنعام غائب غير عاقل فإذا ادخلت في خطاب العقلاء كان فيه تغليب العقل والخطاب معا، وهذا التغليب أعني التغليب لأجل الخطاب والعقل من الأحكام ذات العلتين وهما هنا الخطاب والعقل وهذا هو الذي عناه جار الله وهو مما لا بأس فيه لأن العلة ليست حقيقية، وزعم ابن المنير أن الصحيح أنهما حكمان متباينان غير متداخلين أحدهما. مجيئه على نعت ضمير العقلاء أعم من كونه مخاطبًا أو غائبًا. والثاني مجيئه بعد ذلك على نعت الخطاب فالأول لتغليب العقل والثاني لتغليب الخطاب ليس بشيء ولا يحتاج إليه، وكلام صاحب المفتاح يحتمل اعتبار تغليبين. أحدهما تغليب المخاطبين على الغيب. وثانيهما تغليب العقلاء على ما لا يعقل، وقال الطيبي: إن المقام يأبى ذلك لأنه يؤدي إلى أن الأصل يذرؤكم ويذرؤها ويذرؤكن ويذرؤها لكن الأصل يذرؤكم ويذرؤها لا غير لأن كم في {يَذْرَؤُكُمْ} هو كما {فِى جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} بعينه لكن غلب هاهنا على الغيب فليس في يذرؤكم إلا تغليب واحد انتهى، ثم أنه لا ينبغي أن يقال: إن التذرئة حكم علل في الآية بعلتين: احداهما جعل الناس أزواجًا. والثانية جعل الأنعام أزواجًا ويجوز أن يكون هو الذي عناه جار الله لأن الحكم هو البث المطلق وعلته المجموع وإن جعل كل جزء منه علة فكل بث حكم أيضًا فأين الحكم الواحد المتعدد علته فافهم، وعن ابن عباس أن معنى {يَذْرَؤُكُمْ} فيه يجعل لكم فيه معيشة تعيشون بها، وقريب منه قول ابن زيد يرزقكم فيه، والظاهر عليه أن الضمير لجعل الأزواج من الأنعام.
وقال مجاهد أي يخلقكم نسلا بعد نسل وقرنا بعد قرن، ويتبادر منه أن الضمير للجعل المفهوم من {جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} ويجوز أن يكون كما في الوجه الأول ويفهم منه أن الذرء أخص من الخلق وبه صرح ابن عطية قال: ولفظة ذرأ تزيد على لفظة خلق معنى آخر ليس في خلق وهو توالى الطبقات على مر الزمان، وقال العتبي: ضمير {فِيهِ} للبطن لأنه في حكم المذكور والمراد يخلقكم في بطون الأناث، وفي رواية عن ابن زيد أنه لما خلق من السموات والأرض، وهو كما ترى ومثله ما قبله والله تعالى أعلم {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء} نفى للمشابهة من كل وجه ويدخل في ذلك نفى أن يكون مثله سبحانه شيء يزاوجه عز وجل وهو وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها أو المراد ليس مثله تعالى شيء في الشؤون التي من جملتها التدبير البديع السابق فترتبط بما قبلها أيضًا، والمراد من مثله ذاته تعالى فلا فرق بين ليس كذاته شيء وليس كمثله شيء في المعنى إلا أن الثاني كناية مشتملة على مبالغة وهي أن المماثلة منفية عمن يكون مثله وعلى صفته فكيف عن نفسه وهذا لا يستلزم وجود المثل إذ الفرض كاف في المبالغة ومثل هذا شائع في كلام العرب نحو قول أوس بن حجر:
ليس كمثل الفتى زهير *** خلق يوازيه في الفضائل
وقول الآخر:
وقتلى كمثل جذوع النخيل *** تغشاهم مسبل منهمر
وقول الآخر:
سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم *** ما أن كمثلهم في الناس من أحد
وقد ذكر ابن قتيبة وغيره أن العرب تقيم المثل مقام النفس فتقول مثلك لا يبخل وهي تريد أنت لا تبخل أي على سبيل الكناية وقد سمعت فائدتها. وفي الكشف أنها الدلالة على فضل إثبات لذلك الحكم المطلوب وتمكينه وذلك لوجهين. أحدهما أنه فرض جامع يقتضي ذلك فإذا قلت مثلك لا يبخل دل على أن موجب عدم البخل موجود بخلافه إذا قلت أنت لا تبخل. والثاني أنه إذا جعل من جماعة لا يبخلون يكون أدل على عدم البخل لأنه جعل معدودا من جملتهم، ومن ذلك قولهم قد أيفعت لذاته أي أترابه وأمثاله في السن، وقول رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم في سقيا عبد المطلب: إلا وفيهم الطيب الطاهر لذاته تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك، وقيل: إن مثلا عنى الصفة وشيئًا عبارة عنها أيضًا حكاه الراغب ثم قال: والمعنى ليس كصفته تعالى صفة تنبيها على أنه تعالى وإن وصف بكثير مما يوصف به البشر فليست تلك الصفات له عز وجل حسب ما يستعمل في البشر.
وذهب الطبري. وغيره إلى أن مثلا زائدة للتأكيد كالكاف في قوله:
بالأمس كانوا في رخاء مأمول *** فأصبحت مثل كعصف مأكول
وقول الآخر:
أهل عرفت الدار بالغريين *** وصاليات ككما يؤثفين
وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بجيد لأن مثلا اسم والأسماء لا تزاد بخلاف الكاف فإنها حرف فتصلح للزيادة، ونسب إلى الزجاج. وابن جنى. والأكثرين القول بأن الكاف زائدة للتأكيد، ورده ابن المنير بأن الكاف تفيد تأكيد التشبيه لا تأكيد النفي ونفي المماثلة المهملة أبلغ من نفي المماثلة المؤكدة فليست الآية نظير شطري البيتين، ويقال نحوه فيما نقل عن الطبري ومن معه، وأجيب بأنه يفيد تأكيد التشبيه إن سلبًا فسلب وإن إثباتًا فإثبات فيندفع ما أورد، نعم الأول هو الوجه، والمثل قال الراغب: أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة وذاك أن الند يقال لما يشارك في الجوهر فقط والشبه لما يشارك في الكيفية فقط والمساوي لما يشارك في الكمية فقط والشكل لما يشارك في القدر والمساحة فقط والمثل عام في جميع ذلك، ولهذا لما أراد الله تعالى نفي الشبه من كل وجه خصه سبحانه بالذكر، وذكر الإمام الرازي أن المثلين عند المتكلمين هما اللذان يقوم كل منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته وحمل المثل في الآية على ذلك أي لا يساوي الله تعالى في حقيقة الذات شيء، وقال: لا يصح أن يكون المعنى ليس كمثله تعالى في الصفات شيء لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين كما أن الله تعالى يوصف بذلك وكذا يوصفون بكونهم معلومين مذكورين مع أن الله تعالى يوصف بذلك، وأطال الكلام في هذا المقام وفي القلب منه شيء.
وفي شرح جوهرة التوحيد اعلم أن قدماء المعتزلة كالجبائي. وابنه أبي هاشم ذهبوا إلى أن المماثلة هي المشاركة في أخص صفات النفس فمماثلة زيد لعمر ومثلًا عندهم مشاركته إياه في الناطقية فقط، وذهب المحققون من الماتريدية إلى أن المماثلة هي الاشتراك في الصفات النفسية كالحيوانية والناطقية لزيد وعمرو.
ومن لازم الاشتراك في الصفة النفسية أمران أحدهما: الاشتراك فيما يجب ويجوز ويمتنع. وثانيهما: أن يسد كل منهما مسد الآخر والمتماثلان وان اشتركا في الصفات النفسية لكن لابد من اختلافهما بجهة أخرى ليتحقق التعدد والتمايز فيصح التماثل، ونسب إلى الأشعري أنه يشترط في التماثل التساوي من كل وجه.
واعترض بأنه لا تعدد حينئذ فلا تماثل، وبأن أهل اللغة مطبقون على صحة قولنا: زيد مثل عمرو في الفقه إذا كان يساويه فيه ويسد مسده وإن اختلف في كثير من الأوصاف، وفي الحديث:«الحنطة بالحنطة مثلًا ثل» وأريد به الاستواء في الكيل دون الوزن وعدد الحبات وأوصافها، ويمكن أن يجاب بأن مراده التساوي في الوجه الذي به التماثل حتى أن زيدًا وعمرًا لو اشتركا في الفقه وكان بينهما مساواة فيه بحيث ينوب أحدهما مناب الآخر صح القول بأنهما مثلان فيه وإلا فلا فلا يخالف مذهب الماتريدية، وفيه أيضًا أنه عز وجل ليس له سبحانه مماثل في ذاته فلا يسد مسد ذاته تعالى ذات ولا مسد صفته جلت صفته صفة، والمراد بالصفة الصفة الحقيقية الوجودية، ومن هنا تعلم ما في قول الإمام لا يصح أن يكون المعنى ليس كمثله تعالى في الصفات شيء لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين كما أن الله سبحانه يوصف بذلك فإن معنى ذلك أنه تعالى ليس مثل صفته سبحانه صفة، ومن المعلوم البين أن علم العباد وقدرتهم ليسا مثل علم الله عز وجل وقدرته جل وعلا أي ليسا سادين مسدهما، وأما كونه تعالى مذكورًا ونحوه فهو ليس من الصفات المعتبرة القائمة بذاته تعالى كما لا يخفى، وزعم جهم بن صفوان أن المقصود من هذه الآية بيان أنه تعالى ليس مسمى باسم الشيء لأن كل شيء فإنه يكون مثلًا لمثل نفسه فقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء} معناه ليس مثل مثله شيء وذلك يقتضي أن لا يكون هو سبحانه مسمى باسم الشيء فلم يجعل المثل كناية عن الذات على ما سمعت ولا حكم بزيادته ولا بزيادة الكاف ومع هذا واغماض العين عما في كلامه لا يتم له مقصوده إذ لنا أن نجعل ليس مثل مثله شيء نفيًا للمثل على سبيل الكناية أيضًا لكن بوجه آخر وهو أنه نفي للشيء بنفي لازمه لأنه نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم كما يقال: ليس لأخي زيد أخ فأخو زيد ملزوم والأخ لازمه لأنه لابد لأخي زيد من أخ هو زيد فنفيت هذا اللازم والمراد نفي ملزومه أي ليس لزيد أخ إذ لو كان له أخ لكان لذلك الأخ أخ هو زيد فكذا نفيت أن يكون لمثل الله تعالى مثل، والمراد نفي مثله سبحانه وتعالى إذ لو كان له مثل لكان هو مثل مثله إذ التقدير أنه موجود، ومغايرته لما تقدم أن مبناه إثبات اللزوم بين وجود المثل ووجود مثل المثل ليكون نفي اللازم كناية عن نفي الملزوم من غير ملاحظة والتفات إلى أن حكم الأمثال واحد وأنه يجري في النفي دون الإثبات فإن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم دون العكس بخلاف ما تقدم فإن مبناه أن حكم المتماثلين واحد وإلا لم يكونا متماثلين ولا يحتاج إلى إثبات اللزوم بين وجود المثل ومثل المثل وانه يجري في النفي والإثبات كما سمعت من الأمثلة وليس ذاك من المذهب الكلامي في شيء، أما أولًا فلأنه إيراد الحجة وليس في الآية إشعار بها فضلًا عن الإيراد، وأما ثانيًا فلأنه حينئذ تكون الحجة قياسًا استثنائيًا استثنى فيه نقيض التالي هكذا لو كان له سبحانه مثل لكان هو جل شأنه مثل مثله لكنه ليس مثلا لمثله فلابد من بيان بطلان التالي حتى تتم الحجة إذ ليس بينا بنفسه بل وجود المثل ووجود مثل المثل في مرتبة واحدة في العلم والجهل لا يجوز جعل أحدهما دليلًا على الآخر، لكن قيل: إن المفهوم من ليس مثل مثله شيء على ذلك التقدير نفى أن يكون مثل لمثله سواه تعالى بقرينة الإضافة كما أن المفهوم من قول المتكلم: إن دخل داري أحد فكذا غير المتكلم، وأيضًا لا نسلم أنه لو وجود له سبحانه مثل لكان هو جل وعلا مثل مثله لأن وجود مثله سبحانه محال والمحال جاز أن يستلزم المحال.
وأجيب عن الأول أن اسم ليس {شَىْء} وهو نكرة في سياق النفي فتعم الآية نفي شيء يكون مثلًا لمثله، ولا شك أنه على تقدير وجود المثل يصدق عليه أنه شيء مثل لمثله، والإضافة لا تقتضي خروجه عن عموم شيء بخلاف الماثال المذكور فإن القرينة العقلية دلت على تخصيص أحد بغير المتكلم لأن مقصوده المنع عن دخول الغير وعن الثاني أن وجود المثل لشيء مطلقًا يستلزم المثل مع قطع النظر عن خصوصية ذلك الشيء وذلك بين فالمنع بتجويز أن يكون لذاته تعالى مثل ولا يكون هو سبحانه مثلًا لمثله مكابرة، ثم إن هذا الوجه لكثرة ما فيه من القيل والقال بالنسبة إلى غيره من الأوجه السابقة لم نذكره عند ذكرها وهو على علاته أحسن من القول بالزيادة كما لا يخفى على من وفقه الله عز وجل: {وَهُوَ السميع} المدرك إدراكًا تامًا لا على طريق التخيل والتوهم لجميع المسموعات ولا على طريق تأثر حاسة ولا وصول هواء {البصير} المدرك إدراكًا تامًا لجميع المبصرات أو الموجودات لا على سبيل التخيل والتوهم ولا على طريق تأثر حاسة ولا وصول شعاع فالسمع والبصر صفتان غير العلم على ما هو الظاهر وأرجعهما بعضهم إلى صفة العلم، وتمام الكلام على ذلك في الكلام، وقدم سبحانه نفي المثل على إثبات السمع والبصر لأنه أهم في نفسه وبالنظر إلى المقام.


{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)}
{يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ}.
وقرىء {يُقَدّرُ} بالتشديد {إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ} مبالغ في الإحاطة به فيفعل كل ما يفعل جل شأنه على ما ينبغي أن يفعل عليه، والجملة تعليل لما قبلها وتمهيد لما بعدها من قوله تعالى:


{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)}
{شَرَعَ لَكُم مّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحًا والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى} وإيذان بأن ما شرع سبحانه لهم صادر عن كمال العلم والحكمة كما أن بيان نسبته إلى المذكورين عليهم الصلاة والسلام تنبيه على كونه دينًا قديمًا أجمع عليه الرسل، والخطاب لأمته عليه الصلاة والسلام أي شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا ومن بعده من أرباب الشرائع وأولي العزم من مشاهير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأمرهم به أمرًا مؤكدًا، وتخصيص المذكورين بالذكر لما أشير إليه من علو شأنهم وعظم شهرتهم ولاستمالة قلوب الكفرة إلى الأتباع لاتفاق كل على نبوة بعضهم واختصاص اليهود وسى عليه السلام والنصارى بعيسى عليه السلام وإلا فما من نبي إلا وهو مأمور بما أمروا به من إقامة دين الإسلام وهو التوحيد وما لا يختلف باختلاف الأمم وتبدل الإعصار من أصول الشرائع والأحكام كما بنبىء عنه التوصية فإنها معربة عن تأكيد الأمر والاعتناء بشأن المأمور به، والمراد يايحائه إليه صلى الله عليه وسلم إما ما ذكر في صدر السورة الكريمة وفي قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى: 7] الآية وإما ما يعمهما وغيرهما مما وقع في سائر المواقع التي من جملتها قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا} [النحل: 123] وقوله سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحِى *إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ} [الكهف: 110] وغير ذلك، وإيثار الإيحاء على ما قبله وما بعده مْ التوصية لمراعاة ما وقع في الآيات المذكورة ولما في الإيحاء من التصريح برسالته عليه الصلاة والسلام القامع لإنكار الكفرة، والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال الاعتناء بإيحائه، وفي ذلك إشعاء بأنه شريعته صلى الله عليه وسلم هي الشريعة المعتني بها غاية الاعتناء ولذا عبر فيها بالذي التي هي أصل الموصولات وذلك هو السر في تقديم الذي أوى إليه عليه الصلاة والسلام على ما بعده مع تقدمه عليه زمانًا، وتقديم توصية نوح عليه السلام للمسارعة إلى بيان كون المشروع لهم دينًا قديمًا، وقد قيل: إنه عليه الصلاة والسلام أول الرسل، وتوجيه الخطاب إليه عليه الصلاة والسلام بطريق التلوين للتشريف والتنبيه على أنه تعالى شرعه لهم على لسانه صلى الله عليه وسلم {أَنْ أَقِيمُواْ الدين} أي دين الإسلام الذي هو توحيد الله تعالى وطاعته والإيمان بكتبه ورسله وبيوم الجزاء وسائر ما يكون العبد به مؤمناف، والمراد بإقامته تعديل أركانه وحفظه من أن يقع فيه زيغ والمواظبة عليه، و{ءانٍ} مصدرية وتقدم الكلام في وصلها بالأمر والنهي أو مخففة من الثقيلة لما في {شَرَعَ} من معنى العلم، والمصدر اما منصوب على أنه بدل من مفعول {شَرَعَ} والمعطوفين عليه أو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف والجملة جواب عن سؤال نشأ من إبهام المشروع كأنه قيل: وما ذاك؟ فقيل: هو أن أقيموا الدين، وقيل: هو مجرور على أنه بدل من ضمير {بِهِ} ولا يلزمه بقاء الموصول بلا عائد لأن المبدل منه ليس في نية الطرح حقيقة، نعم قال شيخ الإسلام: إنه ليس بذاك لما أنه مع إفضائه إلى خروجه عن حيز الإيحاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستلزم لكون الخطاب في النهي الآتي عن التفرق للأنبياء المذكورين عليهم السلام وتوجيه النهي إلى أممهم تمحل ظاهر مع أن الأظهر أنه متوجه إلى أمته صلى الله عليه وسلم وأنهم مالتفرقون، ثم بين ما استظهره وسنشير إليه إن شاء الله تعالى.
وجوز كونه بدلًا من {الدين} ويجوز كون {ءانٍ} مفسرة فقد تقدمها ما يتضمن معني القول دون حروفه والخطاب في {أَقِيمُواْ} وقوله تعالى: {وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} على ما اختاره غير واحد من الأجلة شامل للنبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه وللأنبياء والأمم قبلهم وضمير {فِيهِ} للدين أي ولا تتفرقوا في الدين الذي هو عبارة عما تقدم من الأصول بأن يأتي به بعض ولا يأتي بعض ويأتي بعض ببعض منه دون بعض وهو مراد مقاتل أي لا تختلفوا فيه، ولا يشمل هذا النهي عن الاختلاف في الفروع فإنها ليست من الأصول المرادة هنا ولم يتحد بها النبيون كما يؤذن بذلك قوله تعالى: {لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا} [المائدة: 48] وبعضهم أدخل بعض الفروع في أصول الدين المرادة هنا من الدين.
قال مجاهد: لم يبعث نبي إلا أمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار بالله تعالى وطاعته سبحانه وذلك إقامة الدين، وقال الحافظ أبو بكر بن العربي: لم يكن مع آدم عليه السلام إلا بنوه ولم يفرض له الفرائض ولا شرعة له المحارم وإنما كان منبهًا على بعض الأمور مقتصرًا على بعض ضروريات المعاش واستمر الأمر إلى نوح عليه السلام فبعثه الله تعالى بتحريم الأمهات والبنات ووظف عليه الواجبات وأوضح له الأدب في الديانات ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل ويتناصر الأنبياء واحدًا بعد واحد وشريعة أثر شريعة حتى ختمه سبحانه بخير الملل على لسان أكرم الرسل، فمعنى الآية شرعنا لكم ما شرعنا للأنبياء دينًا واحدًا في الأصول وهي التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج والتقرب بصالح الأعمال والصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وصلة الرحم وتحريم الكبر والزنا والإيذاء للخلق والاعتداء على الحيوان واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروءات فهذا كله مشروع دينًا واحدًا وملة متحدة لم يختلف على ألسنة الأنبياء وان اختلفت أعدادهم، ومعنى {أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} اجعلوه قائمًا أي دائمًا مستمرًا من غير خلاف فيه ولا اضطراب انتهى، ولعله أراد بالصلاة والزكاة والصيام والحج مطلقها لا ما نعرفه في شرعنا منها فإن الصلوات الخمس والزكاة المخصوصة وصيام شهر رمضان من خواص هذه الأمة على الصحيح، والظاهر أن حج البيت لم يشرع لأمة موسى وأمة عيسى عليهما السلام ولا لأكثر الأمم قبلهما على أن الآية مكية ولم تشرع الزكاة المعروفة وصيام رمضان إلا في المدينة، وبالجملة لا شك في اختلاف الأديان في الفروع، نعم لا يبعد اتفاقها فيما هو من مكارم الأخلاق واجتناب الرذائل {كَبُرَ} أي عظم وشق {عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} على سبيل الاستمرار التجددي من التوحيد ورفض عبادة الأصنام ويشعر بإرادته التعبير بالمشركين وهو أصل الأصول وأعظم ما شق عليهم كما تنبىء بذلك الآيات أو ما تدعوهم إليه من إقامة الدين وعدم التفرق فيه {الله يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاء} تسلية له صلى الله عليه وسلم بأن منهم من يجيب، و{يَجْتَبِى} من الاجتباء عنى الاصطفاء والضمير في {إِلَيْهِ} لله تعالى كما ذكر محيي السنة وغيره وكذا الضمير في قوله تعالى: {وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ يُنيبُ} أي يصطفي إليه سبحانه من يشاء اصطفاءه ويخصصه سبحانه بفيض إلهي يتحصل له منه أنواع النعم ويهدي إليه عز وجل بالإرشاد والتوفيق من يقبل إليه تعالى شأنه.
وعدى الإجتباء بإلى لما فيه من الجمع على ما يفهم من كلام الراغب، وجعله جمع من الجباية عنى الجمع يقال جبيت الماء في الحوض جمعته فيه فمنهم من اختار جعل ضمير {إليه} في الموضعين لما لما فيه من اتساق الضمائر أي يجتلب ويجمع من يشاء اجتلابه وجمعه إلى ما تدعوهم إليه، ومنهم من اختار جعله للدين لمناسبة معنوية هي اتحاد المتفرق فيه والمجتمع عليه والزمخشري اختار كونه من الجباية عنى الجمع وعود الضمير على الدين، وما ذكره محيى السنة وغيره قال في الكشف أظهر وأملأ بالفائدة، أما الثاني فللدلالة على أن أهل الاجتباء غير أهل الاهتداء وكلتا الطائفتين هم أهل الدين والتوحيد الذين لم يتفرقوا فيه وعلى مختار طائفة واحدة.
وأما الأول فلأن الاجتباء عنى الاصطفاء أكثر استعمالًا ولأنه يدل على أن أهل الدين هم صفوة الله تعالى اجتباهم إليه واصطفاهم لنفسه سبحانه، وأما الذي آثره الزمخشري فكلام ظاهري بناه على أن الكلام في عدم التفرق في الدين فناسب الجمع والانتهاء إليه، وقيل: {مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} على معنى ما تدعوهم إلى الإيمان به والمراد به الرسالة أي ثقلت عليهم رسالتك وعظم لديهم تخصيصنا إياك بالرسالة والوحي دونهم وقوله تعالى: {الله يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاء} رد عليهم على نحو {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] وما قدمنا أظهر.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8